إن حاجة الإنسان لمخالطة من يشبهه ليست رفاهية؛ بل هي حاجة أساسية لا تقل عن حاجته للطعام والشراب.
بل ربما يستطيع الإنسان أن يملأ بطنه بأي شيء فتسكت، إلا أن عقله لا يمتلئ إلا مع من يشاركه الهموم ذاتها والاهتمامات ذاتها.
وإن أكثر ما يحتاجه المسلمون في دول الغرب؛ وجود مكان يجمعهم ويحتويهم، يتبادلون فيه هموهم المتقاربة ومشاكلهم المتشابهة، يتناقشون ويتناصحون جميعاً، كلٌ حسب خبرته.
وإن المكان الذي أقصده أشبه بمضافة مفتوحة، والهدف منها تلبية الحاجة الاجتماعية في التشارك أكثر من كونها منبراً للخطب والمواعظ، على أن يكون فيها قسم للنساء وقسم للأطفال وآخر للرجال، وبهذا يركز كل قسم على ما يهمه من أحاديث.
وأن يكون مكاناً عاماً مفتوحاً لا يخضع لتيار معين، يسع الجالية بكل أطيافها، تتحدث فيه النساء عن مشاكلهن ويعقد فيه الشباب صداقات تشبههم، وتجد فيه البنات من لها مبادىء وقواعد تشبه التي في بيتها، كما ويلبي حاجة الرجال إلى الكلام والنقاش بعيداً عن البيت وحاجاته.
ولعَمري إن فقدان هذا المكان جعل الغربة محملة بأعباء إضافية، وزوّد على المغتربين غربتهم فجعلها أكثر فداحة، وجعلت المغتربين على شقين: إما أكثر تفلتاً أو أكثر انعزالاً.
ولرب قائل يتساءل أليس هذا دور الجمعيات الإسلامية والمساجد؟
والجواب نعم ولا: فالمساجد محسوبة على فرق معينة وتيارات دينية متباينة وبلدان مختلفة، وكل مسجد يستقطب من له توجّه القائمين عليه، فلم يعد المسجد يتسع ليحوي أفراد الجالية ككل، بل أصبح كل مسجد له أهله.
وهذا التقسيم أعاد المجتمع إلى زمن الجاهلية الأولى بالتعصب، مما أدى إلى نفور الناس من فكرة اللجوء إلى المسجد والتواجد فيه.
كما أن حرمة المسجد وتقدسيه جعله مكان عبادة فقط، فتقام فيه الصلوات، فيما ينأى المسجد عن حاجة المسلمين لمكان يأويهم.
مع أني لا أنكر دور الاندماج والاختلاط مع مواطني البلد المقيمن فيه، ولا أزهد بالفرص التي يتيحها التعامل معهم ولا الفائدة المرجوّة منهم، ولكن الاندماج لا يلغي وجود الحاجة إلى الركون والسكينة التي يمكن أن يوفرها مجتمع مثله.
كما أن وجوده لا يحتم على أحد الإنغلاق على نفسه، ولكننا بحاجة إليه كحاجة الفرد إلى البيت.
لأن معاناة المغتربين لا تنحصر بالبعد عن الأهل والوطن؛ بل تمتد لتشمل فقدان العلاقات الاجتماعية الحقيقية، ووجود مثل هذا المكان يخفف عنهم عبء الغربة.
فما أحوجنا إلى ركن يجمعنا ويساعدنا على خلق أنشطة وفعاليات ولقاءات وحتى احتفالات لمناسباتنا
وأعيادنا.
فنحن حتى ولو ابتعدنا عن الوطن فإن مهمة خلق وطن بديل تقع على عاتقنا، وإن محاولة تشكيله وجمعه لا تقوم إلا بجهودنا.
بقلم بتول وطفه